Ads 468x60px

الاثنين، 5 نوفمبر 2012

حينَ تُحَوّلُ المكتبةُ إلى مقهَى..!


حينَ تُحَوّلُ المكتبةُ إلى مقهَى..! 

تخيلوا معي كيف سيكون إحساس أي مثقف عندما يرى أن المكان الذي تعود أن يشاهد به مكتبة- يشتري منها صحف اليوم؛ أو يبحث فيها عن إصدار جديد؛ أو كتاب مفقود؛ - وقد تحول إلى مقهى.؟! طبعا لا شيء غير الإحساس بالغبن والحسرة بل والشفقة على نفسه أولا وعلى الوضع الثقافي عامة.
قد يبدو الأمر للوهلة الأولى -أو من الجانب المادي- مجرد تغيير لنشاط تجاري بآخر, وهذا طبعا مكفول لصاحب المحل؛ وله كامل الحرية في أن يغير نشاطه؛ ومن حقه أن يحوله   دكانا لأحدث موضات الملابس؛ أو يحوله مطعما يملأ  فيه بطون الزبائن؛  أو يحوله مقهى يجلس فيه الناس يتجاذبون  أطراف الحديث من الثامنة صباحا إلى العاشرة ليلا؛ مادام هو المشروع الأكثر رواجا في المدينة, رغم أنها تتوفر بين كل مقهى ومقهى على مقهى, والسبب واضح وضوح الجيوش مِمّن لا شعل لها سوى الجلوس  فيها… لكن يبقى للمثقف رأيه وكذلك أسئلته البديهية والفلسفية, ولعل أهم   ما يتبادر إلى ذهنه هو: ألهذا الحد نزل مستوى الوعي حتى كسدت تجارة المكتبات.؟! ألهذا الحد أصبح هناك عزوف رهيب عن الكتاب.؟! ألهذا الحد تراجعت القراءة لحساب  الفراغ والنميمة ومراقبة «الطالع والنازل».؟! ألهذا الحد غلبت غيوم السجائر والقهوة السوداء  على صفاء الإبداع ونقاء العبارة.؟!
وإذا كان لكل شيء ساعته, فلا شك أن أي مثقف ثاقب النظر لابد له وأن يستشعر دُنُوَّ ساعة القراءة.. ولم يبقى له إلا أن يتلوّ عليها السلام؛ ويَنْصُبَ خيمة كبيرة يقيم فيها مأتما  يستضيف آخر الغيورين ليقرؤوا بياناتهم  و ينشدوا قصائدهم الأخيرة؛ ويعلنوا رسميا موت الثقافة.. لأنهم لن يجدوا من يقرأ لهم؛ ولن يجدوا مكانا يُسَوِّقُون فيه إبداعاتهم؛ مادامت المكتبات تتحول إلى مقاهي؛ ويتحول  معها الإنسان من كائن باحث و قارئ إلى كائن نَمَّام و «بَرْكَاكْ».. يهتم بأشكال الناس وهندامهم ونوع السيارة التي يمتلكونها ومقر سكناهم وبكم شيدوها؛ ولا يحفظ إلا أسماء المقاهي التي شُيِّدت أو في طريقها للتشييد.. وإن سألته عن آخر إصدار لشاعر أو كاتب من نفس المدينة؛ أو أين ذهبت كل تلك الرفوف والكتب والمجلات والأقلام التي اختفت من المكان.؟! يكون جوابه :العلم عند الله.. هذا إن لم يستهزأ بسؤالك الغريب-عنه طبعا-…وفي هذا الوضع أيضا كثيرا ما تستهزئ أنت بنفسك عندما تلاحظ الفرق الشاسع بين الشعوب؛ و تقرأ مثلا أنه حينما اجتاح الجنود الألمان أرض الاتحاد السوفيتي بثت إذاعة موسكو  إلى كل السوفيات بلاغا يقول :لندافع عن وطن «تولستوى» و«بوشكين».. فهل سيأتي يوم تبثُّ فيه الإذاعة المحلية نوعا من هذا البلاغ.؟! طبعا ليس بنفس السيناريو أي كأن يجتاحنا ألمان أو فرنسيون ولكن فقط يكون البلاغ بشكل مغاير؛ مثلا: لندافع عن مدينة «زيري بن عطية»و«محمد مسكين» من هذا الخطر الإسمنتي الذي يجتاح العقول ويجعلها جامدة/ أسيرة في أماكن ليس بها إلا السواد والدخان..!
والجواب واضح: لن يأتي هذا اليوم أبدا إذا استمر بُعْدُ الناس عن كل ما هو فكري /ثقافي؛ وعليه لن يعرفوا يوما أسماء المؤسسين أو المبدعين؛ ولن يعرفوا يوما طعم الفن الذي ينهل من مشاكلهم ليعالج مكامن الخلل؛  ولن يعرفوا تنمية ثقافية  وتنمية إنتاجية أيضا باعتبار أن الإبداع ليس حبرا على ورق أو كلاما في الهواء؛ بل هو أيضا مجال إنتاجي مربح ماديا ومعنويا ونفسيا وروحيا وتاريخيا .. فالمتتبع للمشهد الثقافي اليوم لابد له وأن يلاحظ الخلل الواضح فيه وفي نسبه؛ بحيث أنه ينقسم إلى ثلاث طبقاته : الأولى هي طبقة النخبة التي تهتم بالأفكار والأشكال التعبيرية والإبداعية؛  من مسرح وشعر وموسيقى و سينما و تشكيل ورواية وما استجد  من بحوث وإصدارات ودراسات  علمية  وفلسفية, وهي لا تشكل إلا النّزر القليل بالمقارنة مع الطبقة الثانية التي لا تهتم إلا بما يجري من أحداث؛   وتتيه في تعقيداتها وتحليلاتها؛ و التي تساهم في تغذيتها  وتشعبها عدد من الجرائد والصحف-للأسف- حتى أنه في كثير من الأحيان تتعرض –تلك الأحداث- إلى تشوهات وبعدا صريحا عن حقائقها من كثرة القيل والقال حولها.. لأن كل جانب يحاول أن يبلورها حسب منظوره الايديولجي ؛ أو حسب مرجعيته ونفعيته.. وتشمل هذه الطبقة شريحة مجتمعية مهمة لأنها –كما سبقت الإشارة- تقتات على ما ينشر بالجرائد فقط.. وفي حالات عديدة لا تُخْضع  المقروء إلى منطق النقد والحقيقة و الحكمة.   لكن  تبقى الطبقة الثالثة هي الأعلى نسبة بالمقارنة مع من سبق ذكرهم؛ وهي التي تتخذ من “ثقافة” الرصيف والمقاهي مرجعية أساسية؛  بل ولها صحافتها أيضا وجرائدها التي تتناسل كل يوم كما يتناسل الفطر, لتقرأ على صدر صفحاتها ما فعله إلا أشخاص معينون ؛أو تتطرق إلى مواضيع لا تشفي إلا كبتها الجنسي وغليلها السياسي و خللها الديني؛ بمعنى آخر أنها تحاول أن تعزف دوما على وتر «الثالوث المحرم» ..رغم أن هذا المفهوم أصبح مبتذلا  من كثرة ما قيل فيه وبالنظر إلى ما حصل أيضا من تحولات فكرية واجتماعية وحتى سياسية.. وكل ما أصبح  يثير فيه هو عنصر  الفضيحة. وهذا هو الفرق بين الفكر النخبوي وبين فكر الرصيف أو المقاهي: فالأول يعرض المفهوم للنقاش لكي يقدم “السياسي” و”رجل الدين” إلى كرسي المساءلة ويفتح حوارات صريحة تطوي صفحة القطيعة التي ظلت مفروضة بالقوة والتسلط منذ زمن؛   كما تخضع “الجنس” إلى تربية  ومكاشفة تضمن له مسارا صحيحا  وسويا بدون عقد أو شذوذ عن الخط الصحيح.. أما فكر الرصيف لا يهمه من الثالوث المذكور إلا الإثارة والفضيحة وشتان بين المنطلقين وبين الطبقتين.. ويبقى الأمل في الطبقة الوسطى في أن ترقى بمستواها وتُغلِّب كفة الفكر والحكمة والإبداع؛ ولا تنحدر أكثر إلى رصيف بارد في اهتماماته وغذائه حتى لا يتحول ما تبقي من مكتباتنا إلى مقاهي تقتل الفكر والزمن والإنسان..وحتى نتذكر مدننا بكتابها ومبدعيها ومفكريها ومراكزها  وأنشطتها الثقافية..وليس بعدد مقاهيها أو  محلات أكلاتها السريعة أو تاريخ أباطرتها ولصوصها أو رقم الجرائم و الفضائح التي ارتكبت فيها …

كتبهارشيد قدوري ، في 18 يناير 2008 الساعة: 11:42 ص

0 commentaires:

إرسال تعليق

بالنسبة للأشخاص الذين لا يتوفرون على حساب في جمايل ويودون التعليق فالمرجو كتابة التعليق ثم
الضغط على السهم بالقرب من:: :التعليق باسم ::وملء الخانة

الإسم: (اسم صاحب التعليق)
عنوان URL: (في حالة التوفر على موقع الكتروني ضع رابطه هنا)

ثم ادخال الحروف اسفله و الرقم الموجود في الصورة ثم نشر التعليق
--------------------------------------------------------------------------------

ملحوظة : التعليقات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع بل تعبر عن آراء أصحابها